recent
أخبار ساخنة

فُتنَة ” رواية لـ”أميرة بهي الدين” الجزء الثالث

إيجي تريند
الصفحة الرئيسية
                         
أميرة بهي الدين




الجزء الثالث

فُتنَة


ما تزال فُتنَة جالسة فوق المكتب، تراقب نبيل وهي تعرف كل ما يدور في رأسه وخياله، حين صمتت عن حكايتها برهة تلتقط أنفاسها بعد أن قصت عليه حكاية لقائها الأول، أزاحها كابوسه المعتاد، واحتل بسرعةٍ كل مساحات النوم والوعي واللا وعي، وكل رأسِه وخياله. انتفض نبيل في فراشه يعاني عذابات حرق الكتب، وفرار الأبطال، وتحليق الصفحات البيضاء، ودخان الحريق الخانق وقهره، وهو يرى اسمه يحترق ألف مرةٍ كل ليلة، تراقبه فتنة مشفِقةً عليه من معاناته وكابوسه اليومي المريع يستبد به ويعذبه مثلما يفعل كل ليلة ..

تشاركه فُتنَة الكابوسَ وتفاصيله، وكأنها تجلس على مقعد المتفرج في زواية من رأسه تتابع أحداث المشهد الذي يعيشه نبيل ويعذبه، تعرف فُتنَة أن كل الشخصيات التي كتبها نبيل وكتب عنها في رواياته الكثيرة فرت من نيران الحريق احتجاجًا علي ما فعله فيها، وحزنًا على رداءة تصويرها ورسمها، ولعنات القراء الغاضبة التي تطاردها، تعرف فتنة كل هذا، تعرف الأبطال والشخصيات، وترى فرارهم، لكنها لا تشاركهم الفرار من مصيرهم الذي قهرهم المؤلف بين سياجِه، هي تشارك نبيل كابوسَه ولا تشارك شخصياتِه وأبطاله حتى الآن مصيرهم وفرارهم، هي ليست مثلهم جميعًا، هي مجرد فكرة لم تكتمل، ومشروع لم يُكتب بعد، لم يقرر الملثمّون حرق الرواية التي تلعب بطولتها؛ لأنها ما تزال في عِلم الغيب ووجدان المؤلف، لم تخرج بعدُ للنور والقراءِ والحياة، تلاحق فتنة أبطالَ نبيل وشخصيات رواياته وهُم يفِرون من الحريق، ويتخلون عنه وعن كتبه وصفحاته، تشفِق عليهم، وتغضب منهم في ذات الوقت، تشفِق عليهم من الكراهية التي لاحقتهم منذ خروج الكتب للسوق وفي أيدي القراء، وتلومهم على سلبيتهم مع أنفسهم ومع المؤلف ، كل ما فكروا فيه الفرار من الحريق وإنقاذ أنفسهم، لم يفكروا في المؤلف الذي يستحق منهم رغم كل شيء بعضَ المحبة والشفقة، فلولاه ما كانت لهم حياة ولا وجود. تتابعهم فُتنَة يحلّقون بعيدًا عن الميدان الكبير وجبال الكتب المتراصة؛ استعدادًا للحريق، وتلومهم.. نعم أنا لست مثلكم، وما أزال مجرد فكرةٍ لم تكتمل، لكن، بتحدٍ تؤكد للشخصيات والأبطال ولنفسها، لو كنت مثلكم بطلةً لرواية رديئة لم تحظَ إلا بنفور القراء وانتقادات النقاد وسعِي الملثمّين لحرقها، مثل بقية روايات المؤلف، لو كنت في هذا الوضع الصعب، ما فررت من صفحات الكتاب، وما حلّقت لأنقذ نفسي من الحريق، تؤكد بتحدٍ، كنت سأبقَى وأواجِه الحريق والملثمّين، وأواجه المؤلف بحقيقة ما يحدث، وأفسر له غضب الملثمّين وكراهية القراء، وأساعده كي يعود لنفسه وموهبته وإبداعه، إذا كنت أؤمن بموهبته، وأنا أؤمن بها فعلا مثلكم جميعًا، كنت سابقَى وأساعده، ولن أفِر منه وأنقِذ نفسي فقط، تؤكد فتنة لنفسها، أفهم عذاباتِ الأستاذ المؤلف، وصراعَه مع الحياة ومع نفسه، لم يتحمل قسوة تجربة روايته الأولى، والنسخ التي وزّعت مجانًا، فلن تقرأ، والنسخ القليلة التي بيعت، والنسخ الأكثر التي بقيت على رفوف المكتبات يلتهمها التراب والتجاهل، لم يتحمل تلك التجربة وهو المعتز بكتاباته، الفرِح بإبداعها، المنتظِر وهمًا تقديرًا سريعًا، ومحبة فيّاضة، وثراءً سخيًا لم يجده، لم يتحمل الناشرين الذين عذبوه برفض النشر لأعماله لأنه نكِرة لا يَعرف الوسطُ الثقافي اسمَه، ولأن كتاباتِه لن تجد رواجًا مع قراء أمّيين يشترون الكتب من أجل صورها الخليعة وعباراتها الخارجة، تفهم فتنة عذاباتِه وصراعَه القاسي وقت أن عرض عليه أحد الناشرين أن يكتب رواية جديدة، واثقًا أنه لو سمِع نصيحته وكلامه سيبيع منها مليون نسخة! قال له الناشر إنه موهوب، لكنه يبدد موهبته في أعمال الجوائز والمهرجانات، وإنه سيعيش ويموت فقيرًا مفلِسًا، نكِرةً لا يعرفه أحد، وستلتهِم الفئران كتبَه في المخازن، وبعد الفشل التجاري الأول والثاني لن يَقبل ناشرٌ أن ينشر له كلمة، ليمحوه النسيان من الوجود، تعرف فتنة الصراع الذي عاشه نبيل أمام العرض السخي، والمال الكثير، والكتابة اليسيرة التافهة التي يقوَى على أن يصدر منها روايةً كل أسبوع، وبإصبع قدمِه اليسرى، تعرف فتنة الصراعَ وتلوم نبيل؛ لأنه هزم نفسه بنفسه. "وانت المتعلم اللي بتفهم، وكنت تقدر تقول لا، حتاكل وتشرب برضه ومش حتمد ايدك لحد، كنت تقدر تقول لا يا استاذ". لكنها تعرف أنه لم يقُل لا،  بل قرر في لحظة يأسٍ مريرة أن يختصر الطريق الطويل، وأن يسعى للشهرة والثروة، ويترك الجوائز والمسابقات لأصحابها المفلِسين الحمقى .. 

قرر نبيل في لحظة يأسٍ مريرة أن يكتب ما يحِبه القراء الأمّيون، والناشرون الباحثون عن الثروة وأفضل المبيعات، متعجلا  الوصول لأحلام الشهرة والثراء والنجاح المدوي، قرر أن يكتب للناشر والقراء  الروايةَ التي تعجبهم، خليط مِن كل الأصنام المقدسة والممنوعات المحجوبة، الجسد والجنس، الدين والسياسة، الفساد والسلطة، النساء والنميمة، الرجال والخيانة ، قرر أن يستخدم موهبته الحقيقية في صناعة خلطات مزيفة من كل شيء يثير القراء ويعجبهم، بعض العبارات الفارغة الكبيرة، وبعض المواقف العنترية المزيفة. وسرعان ما اشتهرت روايته الثانية، وحققت مبيعاتٍ ضخمة، وازداد عليها السؤال والطلب، وكثرت الندوات والأحاديث الصحفية، واللقاءات التليفزيونية، ولاحقت المكتبات ومنافذ التوزيع ناشرَ الرواية بطلبات كثيرة، وقوائم انتظار طويلة، أوصلت الرواية وبسرعةٍ للطبعه الثانية والرابعة والخامسة، سحقًا للآراء النقدية الكارهة والغاضبة من توليفة الزيف التي أجادها عطّار السمّ، كما وصفه أحد النقاد الغاضبين الذين سرعان ما ابتلع معظمهم أقلامَهم وألسنتهم في دعوات العشاء وسهرات الاحتفال التي أقامها الناشر، ودعاهم جميعًا للأكل والشرب فيها، وهكذا انزلق نبيل في طريق الشهرة وهاوية المجد، يؤازره ناشرٌ مجهول حَقق من وراء رواياته الرديئة ثرواتٍ كبيرة، ويدعمه نقادٌ ومحررو صفحاتٍ أدبية اعتادوا العشاء في احتفالات الناشر، والسفرَ معه للمسابقات الأدبية؛ يأكلون ويشربون ويسكرون على حساب صاحب المحل، كما يَسخرون منه بينهم وبين أنفسهم، وتلاحقت الروايات الرديئة والضجة والمقالات، والاحتفاءات الزائفة، وطوفان الإعجاب والتقدير الكاذب، وتصاعدت نغمات الإشادة بموهبة المؤلف وجرأته وجسارته، واقتحامه الشجاع لعوالمَ جديدة لم يسبق إليها غيره .. إلا هو.. إلا هذا الناقد، إلا رؤوف الذي استمر يهاجمه ويهاجمه، ويمزقه في كل أسطره وكلماته، ويفضح زيفَه وادّعاءه، وإهداره لموهبته، وكَتب فيه وعنه مرثياتٍ رهيبة، رثَا للقراء والأدب كاتبًا كان سيكون له شأنه، لكنه خلع رأسه، وقصف قلمَه، وقتل موهبته، وباع نفسه، وسعى لقممٍ زائفة ليست إلا في حقيقتها قاعَ الهاوية.. 

فُتنَة تعرف كل هذا وأكثر، وكيف لا تعرف وهي تجلس في رأس نبيل، تعيش معه ما يعيشه، فُتنَة تعرف أن رؤوف يترأس فريق الملثمّين الذي يحاولون حرق كتب وروايات نبيل في كابوسه اليومي المتكرر، هي عرَفت رؤوف من نظرة عينيه خلف القناع الأسود، كما تَعرّف عليه  نبيل، نظرته وسط الاستعداد للحريق بكل ما تحمله من حزنٍ وأسى فضحته وأشارت لشخصه واسمِه، نظرةٌ موحية تحكي عن شجنٍ وغضب من المؤلف الذي كان مشروع كاتبٍ واعدٍ موهوب، فتحول بإرادته لمدّعٍ كريه يقتل نفسَه بنفسه كل لحظة ألف مرة! 

تعيش فتنة كابوس نبيل اليومي، وتشاركه كل تفاصيله وأحداثه، لكن الكابوس لا يوجعها مثلما يوجعه، ولا يخنقها كما يخنقه، ولا يطاردها كما يطارده، تراقبه من مكانها فوق المكتب، ومن مقعدها في ركن رأسه، متواريةً مختبئة، تراه ينتفض في الفراش، يستغيث ويطلب النجدة وقت أن يداهمه الكابوس، تسمع صوت صراخه الذي لا يسمعه أحد، وترى قهره وعذابه وهو يتعذب، تلومه غضبَى، أنت مَن فعلت في نفسك كل هذا، واخترت طريقك، فلماذا الغضب والندم الآن؟ 

ينتفض نبيل، ودخان الحريق يخرج من كابوسه ويحتل الغرفة وأنفاسه، تسعل فتنة وتشيح بيديها تبعد الدخان عن أنفها، تتمنى أن تفتح النافذة على مصراعيها وتدخِل الهواء النقي ليطهر الغرفة وصدر نبيل، ويطرد الأشباح والكوابيس، لكنها لم تفعل. تحدّق في نبيل، ينتفض في فراشه، تهمس، أنت اخترت طريقك يا أستاذ، وهو لا يعجبك، ولستَ مجبرًا عليه، اخترتَه وقتلت إحساسك وموهبتك، وقصفت قلمك، واشتريت الشهرة الزائفة على التأثير الحقيقي في القراء والحياة، فلا تتعجب من عقابك اليومي لنفسك، أنت فاشل، وتعرف أنك فاشل، كل رواياتك رديئة وسخيفة وسطحية، وأنت تعلم، وشخصياتها وأبطالها يعرفون، والقراء يعرفون، والأستاذ رؤوف يعرف، صارَحَك وواجهك وحذّرك، لكنك لم تصغِ ولم تسمع، هاجمتَه وادّعيت عليه الغيرةَ من نجاحك وشهرتك، أنت كاذب يا أستاذ، أنت تعرف أنك كاذب، وأنه صادق، تعرف أنك فاشل، وتعرف أن الكلام الصادق الوحيد عن رواياتك هي مقالات رؤوف، وما يصِفها به، أنت في أعماق نفسك تصدق كل كلام النقاد عن رواياتك، ويوجعك كلامه ويحرجك ويصغّرك أمام نفسك، لكنك تنكر وتكابر، تنكر رأيك في نفسك وفي رواياتك، فيطاردك كل ليلةٍ كابوسٌ مريع. صوت فتنة يدوي بين تلافيف رأس نبيل، يزيد معاناته وعذاباته، لا بأس يا أستاذ، هذا الكابوس هو لحظة الحقيقة الوحيدة في حياتك، وأنت تعرف هذا جيدًا. تبتسم ساخرةً منه.. وأنا أيضًا أعرف! 


نبيل 


جالسًا على المقعد الخشبي الخشن، ساعاتٍ طويلة يحدّق في سطح مكتبه، أوراق مبعثرة أمامه، وأقلام كثيرة، مطفأة السجائر فاضت برماد حريقها، ترسم أشباحًا سوداء على الأوراق. مصباح شاحب يلقي بعض ضوئه على الأوراق والأقلام، الغرفة مظلمة، ونوافذها مغلقة، وصخب الشارع لا يخترق شرنقة الإبداع، كما يصف نبيل غرفتَه، ساعات طويلة لا يكتب شيئًا، يحرك ظهرَه المتعَب وأصابعه المتيبسة، ويقبض على قلم يرسم به بعض خطوط، ويكتب كلمتين أو ثلاثًا ويصمت طويلا! 

على طرف المكتب البعيد، تجلس فتنة تهز ساقيها، تقتل الملل الذي خنقها وهي أمامه ساعات طويلة، ثابتٌ لا يفعل شيئًا منذ استيقظ من نومه، وتَسلل من فراشه وسط ظلام الحجرة للحمّام، للمطبخ، وعاد للمقعد وعلبة السجائر، والأوراق الحزينة على بؤسها وبؤسه، تهمس في أذُنِه ترجوه، "خد حمّام يا استاذ، غيّر هدومك، ريّح، زيح النوم والهمّ تحت المَيه السخنة، وحياة النبي حتفوق". 

لا يتحرك من مكانه، ويبتسم ساخرًا من الثرثرة الغريبة التي تهمس في أذنِه، ويتصورها بقايا الكابوس اليومي في شكل همسٍ نهاري مزعج، تتسع ابتسامته أكثر، يرى نفسه على عتبات جنونٍ قريب ..

يشعل سيجارة، ويأخذ منها نفَسين، ويهرسها بعنفٍ وغضب في المطفأة الممتلئة لحوافها، فيتطاير الرماد لأصابعه وأوراقه وسطح المكتب، يحدّق نبيل في اللوحة السيريالية المرسومة بكل مفرداتها على سطح المكتب، ويشعر بقرف من تفاصيلها المبعثرة، وينوي في نهارٍ لطيف أن ينظف الغرفة والمكتب، وأن يرتب الأوراق، لكن النهار اللطيف لم يأتِه بعد! 

ما تزال فتنة تتابعه، تراه صامتًا وكأنه يفكر بعمق، يكتب كلمتين ثم يمزق الورقة، ويغيب عن الوجود كأنه استنشق مخدرًا ذهبَ بوعيه بعيدًا، تحاول أن تتلصص على كلماته التي لا تعجبه ويمزقها، لكنها تفشل، تراقبه، تجوب تلافيف عقله تبحث عن الفكره التي تدور في رأسه، لكنها لا تجد شيئًا له معنىً تفهمه، تتابعه حزينةً على حاله، إنه يفكر في اللاشيء، الحقيقة هو لا يفكر، لكنه خدر العقل يتظاهر بالتفكير والتأمل، ورأسه فارغ، يقوم من مقعده ويسير خطوتين، وكأنه سيغادر الغرفة، وسرعان ما يعود وكأن إلهامَه هبط عليه وقت أن قام، يحدّق في الأوراق البيضاء طويلا، يكتب كلمتين، عبارتين، ثم يمزق الورقةَ ويبكي.. 

تشفِق عليه من رأسه وأفكاره ونفسِه، تهمس في أذُنِه تنصحه بإخلاص، "اكتبْ عني يا أستاذ"، وتذكّره بالأوراق المطوية في الدرج ليعود لها ويستكمل ما بدأه، الغريب أنه يردّ عليها وكأنه يسمعها، "أكتب عنك إيه؟ عاهرة، منحطة، أكتب عنك إيه؟" تغضب منه، "وبتشتم ليه يا استاذ؟ بتشتم ليه؟". وبيأسٍ تهمس، "خلاص اكتب عن اللي انت عايزه، براحتك"، تستفزه وهي واثقة أنه لن يكتب شيئًا ..

ينتفض مِن على مقعده ويغادر الغرفة، يسير للمطبخ، تلاحِقه خطوةً بخطوة، يفتح الثلاجة، يشرب زجاجة ماءٍ باردة دفعة واحدة، كأنه يطفيء حريقًا مستعِرًا في جوفه، يحدّق في الزجاجة الفارغة ويتمناها زجاجة فودكا فاخرة، أو زجاجة نبيت أحمر بجوار قطعة لحمٍ مشوي، تضحك فتنة من أمنياته، "وهي ناقصه توهة يا استاذ؟". يبحث عن مشروب يسكِره ويذهب بوعيه، ويتحجج به لتبرير خرسِه وجدبه، وكيف يكتب وهو سكران، مبررًا لنفسه عجزَه عن الكتابة، تضحك فتنة وهي تقف على باب المطبخ تراقبه وتسمع حواره الداخلي الصامت، ومبرراته الواهية لعجزه عن الكتابة، "امبارح كان نفسه في ست وما جتش فمَكَتبش، والنهاره سكران ومش مركّز، وبُكره تعبان وبعافيه شوية، والاسبوع الجاي ماليش نفس، وآخرتها ولا حيكتب حاجه!". ما يزال واقفًا حائرًا وسط المطبخ، وزجاجة الماء الفارغة في يده، وكأنه لا يعرف كيف يتخلص منها ويعود لمكتبه، تهمس فتنة في أذنِه بإلحاح وسخف، "واللهِ يا استاذ مش حتلاقي حد تكتب عنه أحسن مني"، ينتفض عائدًا  لحجرته، وكأنه يطرد شبحًا، "اكتب عنك إيه؟ اقول وزير حبّك؟ ولا اقول نزلتي مظاهره؟ ولا اقول رُحتي حفله الاينرويل؟!"، تضحك ضحكة خليعة تدوي في رأسه وفي الشقه كلها، "وإيه اللي زانقك على الوزير والمظاهره واللي مش عارف ايه ده، ما تكتب عن الناس في الشارع، ما تكتب عن الحياه واللي بيحصل فيها، ما تكتب عن زبوني الأخراني، موظف على قدّه ومرتّبه ما بيكفيهوش، ورغم كده خَد فلوس البيت وجالي، بسَطته ولسّه فاكره فرحته وهو ماشي سعيد ورافع راسه من كتر الرجوله".. تضحك.. "آه يا استاذ، ما هو اللي حاسس برجولته يعرف يرفع راسه، واللي ما يحسش بيها يفضل مطاطي على طول". يسمعها ويهز رأسه كأنه يطردها منها، "انتي كمان حتتفلسفي! راجل إيه ورجولة إيه؟!" بغضبٍ وحسم يصرخ فيها، "مش حاكتب عنك يعني مش حاكتب عنك"، تتحداه وتهمس في أذنِه بتصميمٍ وثقة، "حنشوف، وانا وانت والزمن طويل يا استاذ!" ... 


رؤوف


في غرفة مكتبه، ووسط كتبِه وأوراقه، يحتسي رؤوف قهوته النهارية، ويستعد ككل يوم لبدء عمله، تجهيز أفكار مقالاته الجديدة، تلخيص الكتب التي سيناقشها في ندوات الأسبوع، قراءة الصحف والمجلات الأدبية لمتابعة ما يحدث في الوسط الثقافي من نشر كتبٍ جديدة، وبزوغ مؤلفين جدد، وندوات مناقشة، إنه نظامه اليومي الذي لم يغيره منذ تفرغ للكتابة والنقد بعد خروجه من المعتقَل. 

في التاسعة والنصف صباحًا يجلس على مكتبه، وكأنه وصل مكان عمله بكامل ملابسه الرسمية وتأنقِه، ويحتسي قهوته ليبدأ الكتابة والقراءة بعدها حتى الخامسة، فينتهي يوم عمله ويعود لحياته، والقهوة والأصدقاء، وزيارة أمّه ..

لكن اليوم يختلف عن أيام كثيرة سابقة أفلح فيها رؤوف في أن يفِر من نبيل، ورواياته الكريهة، والأخبار التي تنشَر عنه وعنها، سِيرته تفسد مزاجه، وتعيقه عن التفكير الهاديء، سِيرته تستفزه فيبعد عنها وعنه عامدًا متعمدًا، لكن اليوم وهو يطالع إحدى الصحف الأدبية لمح صورته مبتسمًا، وتحتها خبر من سطرين عن ترشيح أحدث رواياته لجائزة مهمة من الجوائز الأدبية، طوى الجريدة واثقًا أن الخبر كاذب ككل الأخبار التي تنشَر عن ذلك المدّعي، لكن يقينه من كذب الخبر لم يفلح في أن يهديء عصبيته التي طغت عليه فجأة، ترك مكتبه وصَنع فنجان قهوة آخر، وعاد يحتسيه بغِلٍ، وكأنه يتشاجر مع نفسه ومع نبيل ومع الجريدة والمسئولين عنها، يعود للجريدة ويحدّق في الصورة، يقرأ الخبر مرةً واثنتين، يتذكر الرواية الأولى لنبيل وإعجابه بها وبه، يتذكر مقالتَه الكبيرة عن الرواية الأولى، يتذكر المحادثة التليفونية التي شكرها فيها نبيل على جهده في قراءة الرواية والكتابة عنها. نبرات صوته تفيض امتنانًا وصِدق، يتذكر روؤف بعدها الرواياتِ الكريهة، والمكالمةَ التليفونيه الصفيقة، والنسخ التي تصل منزله بإهداءٍ بارد، وكأنه تحدٍ له ولِما كتبه عنه من انعدام موهبته، ورداءة أعماله، وخذلانه، يمضغ رؤوف ذراتِ القهوة الخشنة في آخر فنجان القهوة، ويطوي الجريدة ويهديئ نفسه وأنفاسه، ويقرر أن ينسى نبيل ويتجاهله مثلما فعل، لكنّ هاتفًا قويًا من أعماق قلبه صرخ فيه ألا يبقَى على سلبيته، وأن يسعى وللمرة الأخيرة لإنقاذ ذلك الشاب من نفسه، ومن طريق الهاوية الذي ينحدر لقاعِه وبسرعة، صوتٌ عالٍ يصرخ في روح رؤوف ليمد يدَه لنبيل علّه يفلح في أن ينتشله من مستنقعات القيح التي أغرق نفسه فيها عامدًا. لم يفكر رؤوف طويلا حتى قرر على عكس موقفِه الثابت منذ سنوات من نبيل، قرر أن يحاول أن ينقذه من نفسه، سيكتب عنه مقالا طويلا، سيذكّره بموهبته التي كانت وقَتَلها، سيأتي بعبارات من روايته الأولى المدهشه، سيُحيِي شخصياتِها الحقيقية، سيذكّره بالموهبه التي تغافل عنها عامدًا وانشغل بالزيف والأكاذيب والقبح الذي يملأ بهم جرادل القمامة التي يسمّيها "رواياتي الجديدة!"  

تحمّس رؤوف لقراره ورغبتِه الحقيقية في إنقاذ نبيل، اعتدل على مقعده أمام المكتب يفكر كيف ستكون تلك المقالة المهمة التي سيكتبها،  أمسك الرواية الأخيرة الأحدث لنبيل، تَصَفح صفحاتها، وجرى بعينيه بسرعةٍ على سطورها، أحَس غثيانًا موجعًا، بل لمعت الدموع في عينيه، سَخر من دموعه وسلبيته، لن أبكي، فما جدوى البكاء؟ البكاء لن يعيده لصوابه، البكاء لن يذكّره بما كان وبما أصبح. أحَس رؤوف بروحٍ جديدة عفية تتملكه، أحَس وكأن رؤوف المناضل المقاتل استيقظ من سُباته وغيبوبته، أحَسه عاد لساحات القتال التي تخلّى عنها طواعية وبقرارٍ صعب أجبر نفسه عليه طيلة عمره. 

أحَس رؤوف روحًا جديدة تتملّكه، روحًا مناضلة طالما عرَفها في شبابه وقت أن كان مناضلا محاربًا مدافعًا شرِسًا عما يؤمن به ويعتقد بصحتِه، وقتَها قضى سنواتٍ طويلة في السجون والمعتقلات، كان مؤمنًا بالثورة والتغيير، كان مؤمنًا أن الغد المقبِل أجمل من الحاضر الحالي، من أجل أفكاره وقناعاته وقضيته دفع ثمنًا باهظًا، جاهرَ بمعاداة الحكومة الديكتاتورية، سَخر من كذبها على الناس، فَضح أوهامها وخديعتها للشعب، انضم لتنظيمٍ سِري، آمن بقيادته وخَطه السياسي إيمانًا مطلقًا، لا يهم حياتي أمام قضية الوطن، سَخّر وجوده وأفكاره لصالح الوطن والتنظيم، اعتُقِل مرة واثنتين، لم يكترث، هو بطل، يدفع ثمن اختياراته السياسية الصعبة، حوكِم مرة واثنتين، وفي المرة الأخيرة حُكِم عليه بالسجن خمس سنوات، ارتدى بدلة السجن الزرقاء، وكتب الشعر على جدران الزنزانة، وسطرَ قصص الغرام للنساء المجهولات اللاتي سيقعن في حبه بعد أن يُفرَج عنه، ولِمَ لا؟ أليس هو بطلا مضحيًا دفع ثمنًا باهظًا دفاعًا عن أفكاره وقناعاته والغد المقبِل؟ لكنه حين خرج من السجن، وجد الدنيا تغيرت، والغد الذي ينتظره لم يأتِ، ورفاقه خذلوه وباعوا القضية التي جمعتهم، بحث عن فلول التنظيم، لم يجدها، بحث عن القيادة، اكتشف أنها سلّمت رايتها للحكومة الديكتاتورية التي قضى خلف قضبانها سنواتٍ خمسًا من حياته، اكتأبَ واكتأب، أطال لحيته، واعتَقل روحه سَنة كاملة في غرفة نومه، مزق الخطابات التي لم يجد نساء يقرأها لهن، نسي الشعر الذي كتبه على جدران الزنزانة، يئس من الغد الذي لن يأتي. سَنة كاملة يعتقل نفسه داخل غرفته، هذه المرة هو يعاقب نفسه، في المرة الأولى عاقبته الحكومة الديكتاتورية على معارضتها، في المرة الثانية يعاقب نفسه على انضمامه لمثل هؤلاء الكاذبين المزيفين الذين باعوه، هو وكل زملائه وجيله ممن آمنوا بهم وصدّقوهم، باعوه ثلاث مراتٍ قبْل صياح الديك .... وانتهت فترة العقوبة، وخرج للحياة غريبًا، لا يعرف اللغة التي تتحدث بها، ولا يجيد فهم مفرداتها، أغلق علي نفسه باب مكتبة أبيه، وقرأ كل ما وصل ليدِه من كتبٍ وروايات، وذات ليلةٍ غريبة، قرر أن يكتب نقدًا لأحد الكتب التي قرأها، وكانت الخطوة الأولى في الطريق الطويل الذي ما يزال يسير فيه ..

هل ما تزال في السجن يا رؤوف؟ سؤالٌ يسأله لنفسه كثيرًا، ويفِر من إجابته، خرج من السجن ولم يخرج للحياة، خرج من السجن لصومعةٍ أحتمي فيها من الدنيا متكبرًا عليها وعلى التعامل الحقيقي مع أناسها، اعتكف في الصومعة مقررًا لنفسه نظامًا يوميًا صارمًا لا ولم يغيره منذ سنواتٍ طويلة، عمل ووظيفة يقضي فيهما معظم ساعات يومِه، يقرأ ويكتب، وينقد ويشيد ويهاجم، يخاطب المثقفين ممن يفهمون حديثه ومفرداته لغته، ولا يخاطب غيرهم ممن لا يفهمونه ولن يفهموه، ساعات يقرأ ويكتب حتى ينتهي يوم العمل، وفي نهايه اليوم يطمئن على أمّه العجوز الوحيدة بزيارة قصيرة، يعود بعدها ليحتسي الشاي على المقهى وحيدًا بلا رفقة ولا صخب، ليعود إلى منزله وينام، ليبدأ في اليوم التالي نفس النظام، وكأنه محتجَز في زنزانته يخرج منها للفناء في فسحةٍ يومية؛ يطمئن على أن الحياة ما تزال مستمرة، ويعود لزنزانته حيث يطمئن علي نفسه من عسف السجان، وعسف الحياة .. 

هل ما تزال في السجن يا رؤوف؟ سؤالٌ يراوده بقسوة بعد أن اعتكف في صومعته واعتزل الحياة، فلم يرَها إلا من مِرآة الأحرف والسطور، والكتب والأدب والإبداع، لا يشارك فيما يحدث حوله مهما حدث، فقط يكتب ويقرأ، وكم من أحداثٍ عامة وسياسية، خارج صومعته، استفزت حماسَه ليشارك فيها ولو برأي منشور، أو توقيع على بيان، أو وقفة احتجاجية، أو موقف واضح،  وكم من أيامٍ ألحّت عليه أن يغادر الصومعة، وينهي العزلة والاعتكاف بعد أن بدا له فيها أن الغد الذي ينتظره أوشك فَجره على البزوغ، لكنه يتحمس ولا يفعل شيئًا، ينفعل ولا يعبّر، يقول صامتًا بصوت لا يسمعه حتى هو، يرغب في المشاركة مع الآخرين فيما يهمّهم جميعًا، لكنه لا يشارك، ولن يشارك، ليس خوفُا من ثمن جديد، كما يقول لنفسه دائمًا، فهو لا يخاف، وقد اختبر شجاعته مرة وعشرًا، وهو واثق منها ومن نفسه، لا يشارك، ولن يشارك عزوفًا عن الوقوع في الكمائن التي لا يعرف مدى عمقها، ولا يعرف ما الذي تخبئه له، ولا يعرف ما الذي ستصنعه بحياته التي رتّبها وسَكن لنظامها الصارم يطمئنه على غدِه وعلى نفسه. 

وهكذا مرت عليه الأيام والسنوات، وهو في صومعته ونظامِ يومه الصارم، وكلما عزف عن المشاركة فيما يحدث في العالم خارجه وخارج صومعته ابتعد الغد الذي كان ينتظره فينساه، ويعود يقرأ ويكتب، وصار الأستاذ الناقد الكبير المرموق الذي لا يدخل أي معاركَ إلا المعارك الأدبية، ولا يهتم إلا بالكتب والروايات، وبالأدباء والوسط الثقافي وهمومِه، هذا كان حاله.. حتى قرر أن يخوض مع نبيل معركة كبرى تشبِه معاركه القديمة، قبل أن يدخل السجن والمعتقَل، وقبل أن يعتزل الحياة ويعتكف، سأل نفسه وقتًا ما، لماذا هذا النبيل الذي استفزه إلى حد استعداده لخوض معاركَ كان قد أعلن بوضوحٍ ابتعادَه عنها؟ لا يعرف رؤوف لماذا استفزه نبيل إلى هذا الحد، لكنه استفزه وشحذ فيه قدراتِه القتالية، شحذ فيه روحًا كان قد نسيها منذ زمنٍ بعيد، لن يستسلم، لن يصمت، لن يَقبل ويدّعي عدم اكتراث، لن يشارك في الجرائم التي تحيطه بالصمت والتعالي، ربما ذكّره نبيل بهؤلاء النبلاء الحالمين الأوغاد الذين رفعوا الشعاراتِ الكبيرة وخدعوه، ربما ذكّره ببراءته وقت أن صدّقهم، فإذا بهم يبيعونه ويبيعون الوطن للحكومة الديكتاتورية، دون أن يغمض لهم جفن، نعم نبيل مثل هؤلاء المدّعين الأوغاد، صدّقه كما صدّقهم، وخانه كما خانوه، ويا أهلا بالمعارك! 

وما يزال رؤوف جالسًا أمام مكتبه، والصوت العالي يدوي في قلبِه وروحه، يحثه على إنقاذ نبيل من مصير الأوغاد المدّعين، علّه فِعلا من النبلاء الحالمين، ويملك موهبةً حقيقية تستحق إنقاذها قبل أن نحكم عليه وعلى موهبته بالإعدام تجاهلاً وكرهًا وإلى الأبد. أمسك رؤوف رواية نبيل الأخيرة، والتي وصلته على بيته مثلما وصلته كل الروايات السابقة، "عشق في ديوان المظالم"، والتهمَ صفحاتها بسرعة، أحَس غثيانًا يشبِه ذلك الغثيان الذي أحَسه وقت أن اكتشف أن قادة التنظيم السري ارتموا في حضن الحكومة الديكتاتورية، وأشادوا بها وبسياساتها العظيمة، إنه غثيان الحصار والهزيمة الحتمية، نعم إنه نفس الغثيان، لكنه في ذلك الوقت كان شابًا أهوج لا يملك خبرة الأيام ولا شَعرها الأشيب، اليوم هو رجلٌ مخضرم قاتَلَته الأيام ولم تهزمه، حاصرته ولم تقتله، الآن لا وقت للغثيان، لا وقت لاجترار الحصار ووجع الهزيمة، لا وقت لليأس، الآن عليه إنقاذ ذلك الرجل من نفسه، من يأسه، من حصاره، الآن عليه واجبٌ وطني عظيم، إنقاذ نبيل من نفسه. فكّر رؤوف ما الذي سيكتبه في مقاله؟ وفجأة عدلَ عن فكرته، لن يكتب مقالا، سيتصل به تليفونيًا، يدعوه للقاء، علّ الجلوس والحديث والوصل بينهما يحقق المعجزة، ألقى رؤوف الرواية بعيدًا وكأنه يتمنى أن تتلاشى من الوجود، وأمسك التليفون يطلب رقمًا يحفظه جيدًا، لكنه لم يطلبه من قبل أبدًا .. 


فُتنَة 


مَر اليوم كله وفُتنَة تلاحق نبيل، يتحرك في شقته حركة عصبية، لا تفهم لها معنى ولا هدفُا، يخرج من غرفة للثانية بملابس النوم التي شاهدته بها للمرة الأولى منذ ليلتين، بنطال لا تعرف لونه، وفانلة باهتة، وشًعر أشعث، وذقن طويلة، عينان حائرتان، ونظرات تائهة، وقلَق يستبد به، تزداد حركته وهي تسير خلفه وبجواره لا تعرف إلى أين ستذهب ولا لماذا! يجتاحها الأسى وهو أسير الجدران الصماء لا يغادرها ولا يبتعد عنها، تحِسه محبوسًا في بيته، نعم هكذا قررت فتنة ببساطة، وشخّصت حالته، قررت أن نبيل محبوس في بيته، ولا يجرؤ على أن يخرج منه، وكأنه يتوقع أن يهاجمه ملثمّو كابوسِه اليومي في الشارع، كأنه يخشى تربّصهم به على ناصية البيت، واحتلالهم المقهى المجاور ينتظرون رؤيتَه ليشعلوا النار في عقله الذي أخرج للقراء تلك الرواياتِ الرديئة، تمنت أن تهمس في قلبه، "ما تخافش يا استاذ، دي كوابيس، استعيذ من الشيطان حتنصرف". تمنت أن تهمس له وتنصحه، بل ربما همست له ونصحته ألا يخاف من الملثمّين، وأنه يعيش أوهامه، وأنهم لا ينتظرونه في الشارع، وانه حُر يستطيع الخروج من المنزل، والجلوسَ على المقهى القريب، ربما نصحته فعلاً، ووصَله صوتها، لكنه لم يسمع نصيحتها، وسخِر من الثرثرة الخرقاء التي تلاحقه بصخبٍ مزعج من أول النهار، صخبٌ أعجزه عن الكتابة والإبداع، ودوّت ضحكة فُتنَة في جنبات المنزل تَسخر منه ومن كذبه حتى على نفسه، "وآخرتها بقيت أنا السبب إنك عَمّال تقطّع في الورق"، تضحك بصوت أعلى وأعلى، "حقك عليا يا استاذ". 

مَر اليوم، وفُتنَة تلاحقه في البيت، يخرج من غرفه النوم للصالة، يحدّق في شاشة التليفزيون لا يتابع شيئًا، ويعود للمطبخ يبحث عن شيء يأكله بسرعة بلا مزاج ولا مذاق، يعود للمكتب يعبث بأوراقه، ويرسم خطوطًا متداخلة، ودوائر، ويشرب سيجارة عقِب سيجارة، وتمتلئ الغرفة بالدخان الخانق، وفي النهاية.. وبعد أن أنهَك بدنه وأنهَكها يغلِق كل أنوار الشقة، ويختبيء في فراشه تحت الغطاء الثقيل فوق رأسِه،  ينام! 

عادت فتنة لمكانها على سطح المكتب، تفتش في الأوراق، تبحث عن أي كلمات قضَى اليومَ كله يكتبها، لم تجد إلا خطوطًا متقاطعة، ودوائرَ متشابكة، وأوراقًا ممزقه، شَكرت ربها أنه نسيها ونسي أوراقها في الدرج، فلم يمزقها كما توعّدها. قررت أن تزوره في الحلم، ألم ينتظر امرأة تأتيه تحل مشكلاته وعُقَده، وتريح بدنه وروحه، وتساعده ليكتب؟ هي هذه المرأة التي ينتظرها، ولن تسمح لغيرها أبدًا بزيارته في الحلم، ستزوره باسمةً، لن تلبس وجه الخادمة الصغيرة بشَعرها المكتكت ليطمئن لها، ولن تغيّر ملامحها وتأتيه كسيدةٍ غريبة لا يعرفها، فيأنس لها ويشاركها الحلم، ستزوره بشحمها ولحمها، بالعاهرة التي نفَر منها وكرهها، وتوعّدها بالمحو والموت وتمزيق الأوراق وإلغاء الرواية قبل أن يكتبها، ستزوره جميلةً مشرقة شهية، فَتحت له باب بيتها الذي تَعجّب في الحلم من ذهابه إليه، رغم أنه لا يعرف عنوانه، رَحبت به وأجلسته في حجرة الجلوس البسيطة النظيفة، أدارت له أغنية تحِبها لعبد الحليم حافظ، رَقصت له ودَعَته يرقص معها، لكنه لم يَقبل رغم رغبته الشديدة كما أحَست به، جلست بجواره، ودلّكت ظهرَه، وفَكت توتر عضلات كتفيه، وتمايعت عليه بطريقةٍ أحَبها وأعجبته رغم إنكاره، ضحكت لتطمئنه، "ما عفريت إلا بني آدم يا استاذ، وانا برضه بني أدمه من لحم ودم وحكايات"، قررت فتنة في الحلم أن تعرّفه عليها؛ لأنه لا يعرفها بحق، ولو عَرَفها وعرَف حياتها لوجدَ ما يستحق الكتابة عنه، وما قرر تمزيق الأوراق ولَكَتب الرواية التي غضب عليها ولم يكمل مشروعها. قدّمت له الماء البارد بنقطتَي مزهر كما تحِب أن تشربها، وصَنعت له كوب شاي ثقيلٍ أعجبه وضبط رأسه، سَحَبته من ذراعه لغرفة نومها، ملامح الغضب على وجهه أضحكتها، "ما تفهمنيش غلط يا استاذ، حاورّيك حاجه مهمه واللهِ، ما تخلّيش خيالك يسرح لبعيد"، فتحت دولاب ملابسها، أظهرت له الجلابيب البيتي التي ترتدي أمّه مثلها، تعرف الدهشةَ التي سترتسم على وجهه وسببَها، "امّال انت فاكر ايه، باقعد في البيت ببدل الرقص!؟"، تضحك ساخرةً من تصوراته الغريبة، تعذره، محبوس في نفسه وبيته، لا يعرف حياتها بحق، ولا يعرف شيئًا، تصوراته عن الحياه وهمية زائفة لا علاقة لها بالحقيقة والواقع والبشر الحقيقين وحياتهم، لو يعرف حياتها بحق لكَتَب عنها بحماسٍ شديد، تتوعده ألا تتركه إلا بعد أن يعرفها بحق، ويرى فيها ما يفتح شهيتَه للكتابة والفن. عادت به لغرفة الجلوس، يسير بجوارها مسلوبَ الإرادة، عاجزًا عن الرفض والمقاومة، قدّمت له القهوة المحوّجة، وأقسمت له إنها تحمّص البُنّ بنفسها، وإنها تغسل الفنجان عشر مراتٍ قبل أن تستخدمه، قَصت عليه حكاية عملها وقرارها، لم تبكِ ولم تَشكُ، ولم تلُم الزمنَ، ولم تلعن الأيام، شرحت له اختياراتها في  كلماتٍ بسيطة، "كان نفسي أعيش، جايز غلطانه في اللي باعمله، بس ماعرفتش أعمل حاجه تانيه، ومسير ربّنا يتوب عليا"، ابتسمت خجلَى كأنها تتمناه أن يصدّقها، قصّت عليه حكاياتِ وأسرارَ زبائنها وعملائها، فخورة بنفسها وهي تحكي له عن تميزها في عملها، وحبِّهم لها لأنها صادقة مخلصة وطيبة، "آه وحياة ربّنا طيبة"، تشرح له أن زبائنها يقدّرون جهدها في إسعادهم، "عمر ما حد منهم حَس إني قليلة الأدب"، تضحك وتضحك، "أصل الإنسان كل اللي محتاجه شوية حِنّيه، ومش بيلاقيهم غير عندي"، تضحك وتضحك، وهي تعرف أنها تستفز نبيل بكلامها، "امّال انت فاهم ايه يا استاذ؟" يهز رأسه لا يصدّقها ولا يكذّبها، وحيرته تزداد ..

وما يزال الليل في أوله، وما تزال فُتنَة تسكن حلم نبيل، وتحكي له ما لا يسمح لها أن تحكي عنه وهو يقِظ عصبي متوتر، يقفز من مكانٍ لمكان في الشقة الكئيبه التي يعيش فيها، كما تصِفها فتنة، يتقلب نبيل في فراشه، يشعر وكأنه يقِظ ولم ينَم، يحيّره صوت شخيره العالي الذي يهز جدران غرفة نومِه، وفي نفس الوقت يحيّره أكثر الثرثرة المستمرة منذ أغمض عينيه وحتى الآن، ثرثرة لا تنتهي، والأغرب أنه يسمع صوته يتحدث مع الصوت الثرثار الذي بات يعرفه ويعرف نبرته في حالاته المختلفة، غضبٌ وضحِك، ورضا وتحد ..

دَعَته فتنة في الحلم على الغداء، وقدمت له محشي كرنب صنعته بيديها، "علشان يبقى عيش وملح سوا يا استاذ"، أقسمت عليه برأس جدتها التي تحبها أن يأكل المحشي كله وحدَه، جلست بجواره وهو يلتهِم المحشي بشهيةٍ معجَبًا بمذاقه وشطارتها، "انا إنسانه عاديه خالص يا استاذ"، هكذا قالت له، كان يعيش الحلم معها بنصف وعيِه، أمّا النصف الآخر فيسدّ أذنيه في الحلم، ويحذّره من أن يصدّقها أو يصدّق حديثها الفارغ، هي عاهرة بإرادتها، منحَطة تبيع نفسها وجسدها وشرفها، كل ما تراه في الحلم وهْم، ليس حقيقيًا، العاهرات مثلها لا يطهين محشي الكرنب بمثل تلك البراعة، ولا يحوّجن البُنّ بذلك المزاج، تبتسم فتنة لنبيل وكأنها تسمع صوت مخاوفِه، "أنا إنسانة عاديه خالص يا استاذ، زي كل الناس اللي في الشارع، ممكن يتكتب عني ألف رواية، عادي، ومحدش حيقولك إنك قليل الأدب، ولا بتحض على الرذيلة، عادي حيقروا حكايتي". تصب له الشاي بعد الغذاء في كوب زجاجي من براد صاج قديم، "كان بتاع جدتي وخَدته منها ووصّتني احافظ عليه، وشايلاه في عينيا"، تجلس تحت قدميه على الأرض وهو يشرب الشاي، "يا استاذ الدنيا مليانه ناس غريبه، وانا واحده من الناس الغريبه دي"، يهز رأسه يوافقها، نعم هي غريبة، عاهرةٌ تعرِض جسدها للبيع وتبيع شرفها، لم يقُل لها هذا، لكنه كان ما يفكر فيه، أفكاره اقتحمت قلبها كالسكين المشحوذة، انتفضت من مكانها وكادت تقذفه بكوب الشاي الساخن، قاطعته غضبَى، "لا أعرض جسدي للبيع، لكني أعطي الناس السعاده، كل حاجه ليها وِشّين، وكل إنسان معاه عذره"، سَخِرت منه، "كنت فاهمه إنك بتفهم وحتعرف تشوف، أتاري البعيد أعمى!"، غضبُها حَجب بين أفكارها وعقله الخدر المستسلم للنوم، لم يسمع صوت أفكارها الغاضبة، صرخت فيه وكأنه تحذره من نفسه، "كيف لمثلك أن يكون فنانًا؟، لم أتصور أنك غبي إلى هذه الدرجة، كيف كنتُ أتصورك موهوبًا؟ أنت غبي لا تفهم في البشر، ولا في الظروف، ولا ترى من الحياة إلا أبيضَها وأسودها". 

سَحبت كوب الشاي من يده، ودفعته إلى باب شقتها، "نوّرت يا استاذ"، طردته من منزلها في الحلم، وقف خلف بابها على بسطة السلّم يلهث متسارع الأنفاس، لا يصدّق أن عاهرة مثل تلك الفتاة تطرده من منزلها، وهو الكاتب المرموق الذي يشار له بالبنان، بقيت في منزلها تتوعده، "وحياة رحمة جدّتي مافيش قصادك إلا إنك تكتب عني، استنى عليا يا استاذ"، صوت تهديداتها ووعيدها أيقظه غاضبًا، انتفض من فراشه ووقف في وسط الغرفة المظلمة مستفزًا متوترًا، يحدّثها بصوت عالٍ وكأنه يراها أمامه، ويعرف أنها تجلس على المكتب تراقبه، "لن أكتب عنك، لا أصدقك، لستِ شخصية حقيقية، لا توجد عاهرة بهذه البراعة تطهو محشي الكرنب بهذا النفَس البيتي مثل أمّي، ولا تحوّج البُنّ بمزاج كمثل خالتي فكرية، أنتِ مزيفة، كاذبة، تسرقين حياتهم وتنسبينها لنفسك، لن أكتب عنك"، وبغضبٍ أكثر يرتفع صوته .. "لن أكتب عنك!"  

تنظر له طويلا وكأنها لا تصدق ما تسمعه، وتنفجر ضحكاتها في الغرفة وسط الليل خليعةً ساخرة، تهمس في أذنِه، "عيب يا استاذ تقول الكلام الفاضي ده، انت مفروض كاتب ومبدع وبتفهم، امّك ايه وخالتك ايه؟ وانا مالي بيهم، أنا باحكيلك عن حياتي أنا، وعلى عينك يا تاجر، وقصادك وانت في بيتي، وفي الآخر تقولي مش اكتب عنك، مالكش حق والله"،  يسمعها ويفهم سخريتها ولا تعجبه، يرفع صوته عليها أعلى وأعلى، "لن أكتب عنك، لن أكتب عنك" ..

تضحك ساخرة، "براحتك". يشعل نور الغرفة، يبحث عن سجائره، تندهش وتحزن حين ترى حجرته وحالها، قذِرة مليئة ببقايا الطعام والأطباق الفارغة، قصاصات أوراق ممزقة، عُلَب سجائر فارغة، أكثر من مطفأة مليئة ببقايا السجائر ورمادها المحترق، تحزن عليه، "يا استاذ نضّف الأوضه علشان تعرف تكتب، افتح الشبّاك لنور ربّنا، اطرد الكتمه ودخّل شويه هوا نضيف يفكوا ضيقة صدرك ونفَسك"، لا يسمعها، هي تعرف أنه لا يسمعها، لكنها لن تكفّ عن محادثته حتى يسمعها وينتبه ويدرِك .. 

يدخل الحجرة بكوب شاي، ويجلس على المكتب، لا يراها تهز ساقيها فوق المكتب، تقترب من كوب الشاي بأنفها ثم تحِس بتوتر في معدتها، تكاد تضرب الكوب بكفها تلقيه أرضًا، "الكوبايه مش نضيفه يا استاذ، ايه القرف ده؟!"، يتذكر الحلم الذي عاشه معها، وطعامَها الشهي، وشايَها المضبوط، وقهوتها المحوّجة، يغتاظ منها ومن نفسه، يبحث عنها وكأنه يراها أمامه، "أنتِ تطردينني من بيتك؟!"، لا يصدق أن احلامه تفعل فيه ما فعلته فيه، لا يصدق أن أحلامه تتيح لعاهرةٍ أن تطرده من بيتها، يفكر فيها ثواني ثم يقرر بحسمٍ وثقه ... "لن أكتب عنك مهما يحدث"، تضحك ضحكة خليعة ساخرة وتتحداه، "حنشوف يا استاذ حنشوف"، وما تزال المعركة بينهما مستمرة ..


                                          رؤوف


يلقِي رؤوف السماعة حين يسمع رنين جرس التليفون، يلقِي السماعة ويتلعثم، لا يجد كلماتٍ مناسبة سيقولها لنبيل، كل ما فكّر فيه ورتّبه من أفكار وعبارات تَبخّر من رأسه، سيطلب مقابلته، سيفهمني خطأ، لا لن يفهمني خطأ، سأقول له إني قرأت كتابه الأخير، وأريد مناقشته فيه، سأقول له إني قلِق لأنه لا يكتب منذ فترةٍ طويلة، لن يفهم كلماتي، سيتصورني أسخَر منه، لن يصدقني، لن يَقبل أن يقابلني، لن يصدق حُسن نيّتي وحرصي عليه، جوقة المنافقين شرنَقَته بداخلها، ومنعت عنه الآراء الجادة المخلِصة

ها هو رؤوف كعادته يدخل صومعته مرة جديدة بمبررات واهية، يبعد التليفون عن يدِه، يفكر طويلا من جديد، هل يتصل بنبيل؟ وإن اتصل به ماذا سيقول له؟ الرواية الأخيرة أمامه، ونفوره منها يزيد، ويستبد على أي مشاعرَ أخرى في قلبه .. ما هذا المرار؟ يقرر من جديد أن يتصل بنبيل، وسرعان ما يتراجع، لن يفهم ما أقوله، مغرور فرِح بنفسه، يتصور أن تلك التفاهات رواية، كان يكتب ما يستحق القراءة وقت أن راعى موهبته، أمّا الآن فهو لا ينشر إلا قمامة عطنة يتصورها أدبًا رفيعًا، قرر أن لن يكلمه، ولن يتحدث معه، وليذهب هو وكتاباته للجحيم!  

يغرق رؤوف داخل نفسه أكثر وأكثر، سنوات تعوّد على حواره الداخلي، يحدّث نفسه ولا أحد سواه، تعوّد على شكل أحرفه على الأوراق يفرغ بها أفكاره، ويرى بها معناها وقيمتها، هذا هو الحوار الوحيد الذي يجيده، حواره مع نفسه، هو وأحرفه وأوراقه، وأفكاره تدور وتلف في رأسه، حَسم أمره، لن يكلم نبيل، لا فائدة فيه ولا منه .. 

وفي لحظة انتباهٍ قصيرة، سَخِر رؤوف من نفسه، بارعٌ أنت أيها المفكر في تبرير تقاعسك عن أي عملٍ مفيد، ولو كان مجرد مكالمة تليفون، بارعٌ وكفء في تثبيط همتك وقتل حماسك، والعودة صاغرًا لصومعتك وأوراقك ومقالاتك، يَسخر أكثر وأكثر من نفسه، كلما هَم ليخرج من الصومعة التي أغلق بابها عليه منذ سنواتٍ طويلة، كلما هَم أن يتحرك في أي اتجاه بعيدًا عن مكتبه وغرفة نومِه وبيت أمّه، كلما هَم يهرب من أسْره الاختياري، قال لنفسه الجملة التي يكرهها ويحِبها، "مافيش فايدة"! وهي جملة سحرية تحبِط هِمته وتعجزه أكثر مما هو عاجز، وتعيده لمقعده يلتصق فيه أكثر.. 

صرخ رؤوف، "مافيش فايدة"، وحدّق في السقف طويلا طويلا. 


نبيل


استيقظ من نومِه تعِبًا مرهقًا، الثرثرة لم تكفّ عن رأسه تكاد تحطمها، كأنه لم يكتفِ من كابوسه اليومي لتضاف إليه ثرثرة فارغة من عاهرةٍ لا يجوز لها تتحدث معه أصلاً! 

قام مِن فراشه وصدى صوت فُتنَة يدوي في أذنيه وعقله، كاد يفتح نافذة الغرفة، لكنه قرر بحسم ألا يفتحها، ضوضاء الشارع تفسد مزاجَه، صراخ السيارات والعوادم، وأصوات الفرامل المفاجئة التي تصدرها سيارات يقودها عابثون، تفسد مزاجَه، تعجزه عن الكتابة، لن يفتح النافذة، فالحجرة على حالها بصمتها المطبق، وصوت أفكاره وحفيف أوراقه هي التي شهدت إبداعه القديم، حين يفتح النافذه سيدخل إليه العالم الخارجي بضجيجه، بصخبه، بإزعاجه، يفسد نهارَه ويومه كله. 

تتابعه فتنة وهي ما تزال جالسة على مكتبِه متعَبة من قِلة النوم وكثرة الحديث، همست بعد أن ألقت عليه تحية الصباح، ودَعَت له بالتوفيق والخير، "افتح الشبّاك للدنيا يا استاذ، خلي الدنيا تخش عندك علشان تلاقي حاجه تكتب عنها"، سخِر منها باعتبارها لا تفهم شيئًا في الدنيا لتتحدث فيها وعنها، ورفض نصيحتها، وصَمم أن يبقِي نافذته مغلقة؛ يحمي نفسه من العالم الخارجي وشروره .. 

يحتسي شايه النهاري وهي جالسة بجواره على طرف الفراش تتحدث وتحكي، "أنا باحب قوي افتح الشبّاك ساعة المغربية، أبص على الناس رايحه وجايه، ده راجع من الشغل تعبان، ده نازل يشتري عشا، الناس قاعده علي القهوه تضحك، بنات مروّحه بدري خايفه من علْقة أبوها، سِت راجعه من شغلها متكسره، عيّل صحي من النوم بعد الغدا، خرج يلعب في الشارع، باقف في الشباك أسمع الراديو من عند الجيران، أسمع عبد الحليم، أسمع الست، أنسى أنا مين وأنسى حكايتي، وانبسط من قزقزه اللب، واشوف الحمَام اللي راجع الغِية واشوف العيال مطيّره الطيارات، وأسمع خناقه بين اتنين الدنيا خنقاهم. افتح الشبّاك يا استاذ، خلي الدنيا تخلش عندك بحواديتها بفرحها بهمها، افتح الشبّاك حتلاقي الروايات اللي انت مستنيها تيجي لك لوحدها" 

يزداد عنادًا وغضبًا، ويهز رأسه نفيًا وكأنه لا يليق به أن يسمع نصيحتها ..

وفجأة، ارتبك.. وكاد كوب الشاي أن يسقط من يده، فجأة ارتبك وانتبه أن فتنة تخاطبه من داخل رأسه، والأكثر رعبًا بالنسبه له، أنه يسمعها ويردّ عليها، فتنة العاهرة احتلت رأسه! يزداد رعبه وارتباكه، وتجحظ عيناه، وتكادان تسقطان من رأسه، تَصَور أنه نسيها، بل قتلها وقت أن طوى الأوراق في درج مكتبه، لكنها حيةٌ صاخبة، تقاوم إرادته ولا تكف عن الثرثرة، ولا ترحم رأسه ليلاً ولا نهارًا، ينتبه لِما يحدث له منذ ليلتين ولم يفطن لمعناه، فتنة لم تمحُها الأوراق المطوية، ولم ترحل عن خياله، سخِر نبيل من أفكاره، ضحك صاخبًا وكأنه يتابع فيلمًا كوميديًا، الوحدة والجدب أفقداه عقله، فتنة مشروع شخصية في رواية لم تُكتَب بعد، كَتب عنها سطرين أو ثلاثة، وفر منها وحسم أمرها في وجدانه، فكيف بقيت تحتل عقله وأفكاره، وتحكي وتثرثر ليل نهار؟! هز رأسه وكأنه لا يصدق ما يحسه، لكن فتنة لم تتركه في حيرته وارتباكه، وقالت بصوت عالٍ فهِمه جيدًا، "ايوه يا استاذ، أنا فتنة، أنا هنا ولسه موجوده". ارتفع صخب ضحكه أكثر، لا يصدق ما يسمعه، "هوّ أنا سكِرت من الشاي؟!" .. "لا، انت فايق يا استاذ وسامعني كويس، صدقني بس واللهِ حتربح، والنبي ما تزعل مني، افتح الشبّاك علشان ربنا يكرمنا، نسمع عبد الحليم من عند الجيران، والهوا النضيف يخش الأوضه، والدنيا تيجي لغاية عندك، وشوف بقى حيحصل لك ايه"، يطفيء سيجارته، ويهز رأسه وكأنه سيطردها من جمجمته ويخرجها من أذنه ويتخلص من جنونِه وجنونها ..

سيدخل الحمّام، ويبدأ يومه بطريقة مختلفة، حمّام ساخن تنهمر فيه المياه الساخنة فوق رأسه، تذيب التكلس والهمّ، سيفيق وتتوالد الأفكار العبقرية مثل الأيام البعيدة، تنهي صمتَه وجدبه، وتجري بقلمه فوق الأوراق. أحكَم إغلاق نافذة الحجرة قبل أن يدخل الحمّام، وكأنه يخشى من بنت أفكاره تتحداه وتفتحها رغم إرادته، ودّعته فتنة ضاحكة، "طيب خُش استحمّى براحتك انت بقى يا استاذ"، وبميوعة وخبث سألته، "ولا آجي أدعكلك ضهرك؟"، انتفض نبيل يشعر بأنفاسها تقترب من ظهره، فسخِر من جنونه الطاغي وقت أن سمحت رأسه للعاهرة التي كَتب عنها سطرين أن تكلمه ويردّ عليها، وتلاحقه في منزله حتى تكاد تدخل معه الحمّام، إنه الجنون ما تعيشه يا نبيل، أفِق يا رجل.. وتحدّى أوهامه وتحدّاها، وخلع ملابسه وألقاها على الأرض، وسار عاريًا إلى الحمّام، أعطته فتنة ظهرها أدبًا، وقررت في نفس الوقت أن تتحداه وتفتح النافذة فورَ إغلاقه باب الحمّام على نفسه، "حيعمل فيا ايه يعني؟ حيقطّع الورقتين ويموّتني؟ مش مهم، المهم إني اكون فتحت الشبّاك ودخّلت الدنيا في حِجره، ما هو ساعات الواحد يتخلق في الدنيا علشان حاجه صغيره، لكن مفيده قوي، يا سلام بقى لما تبقى العاهره اللي زعلان منها هي اللي فتحت الشبّاك وساعدته يلاقي الرواية اللي مش لاقيها! وحياة النبي حتبقى رواية عظيمة واللهِ يا استاذ، يا سلام بس لو تسمع كلامي". 

وحينما دوي باب الحمّام خلفه، وارتفع صوت المياه، قفزت فتنة للنافذة وفتحتها، دخلت الشمس ونسائم الهواء منعشة طازجة، ألقت فتنة نصف جسدها من النافذه تتفرج على الشارع وصخبه، تتابع السائرين في الشارع ذهابًا وإيابًا، سمعت صراخًا وشجارًا عاليين، كان سائقان قد أوقفا الشارع، وتَسبّبا في زحام شديد، كلٌّ منهما يلوم الآخر ويصرخ أنه حمار تسبّب في زحمة الشارع ووقْف الحال، ضحكت، "همّا الاتنين حمير"، كادت تنادي عليه في الحمّام، "تعالى بص يا استاذ، كل واحد شايف التاني حمار، اكتب عنهم، قول مين فيهم حمار وليه". ضحكت واثقةً أنه لو وجد النافذة مفتوحة سيلقي بنفسه منها غضبًا لأنها تَحدّته وجدّدت الهواء الراكد ورائحة الغرفة، وَصَلها صوته يغني فرحًا تحت الماء، وكأنه عثر على راويته الجديدة وعلى أبطالها، ضحكت وأكدت عليه، "والنبي يا استاذ انت مش حتكتب غير عني، ما تتعبش نفسك وتتعبني معاك، ما هو يا أنا يا بلاش، وخلينا كده نجري ورا بعض ونلعب حاوريني يا طيطا!".


google-playkhamsatmostaqltradent